الداء أمريكى.. والدواء أيضًا

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 1 ديسمبر 2016 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

سألت المرحوم الدكتور بطرس غالى فى عام 2010: هل التزمت مصر أو ألزمت فى اتفاقات كامب ديفيد بعدم الدخول فى علاقة استراتيجية دولية أو إقليمية تتعارض مع علاقتها الاستراتيجية (الجديدة وقتها) مع الولايات المتحدة الأمريكية، فأجاب بأن مثل هذا الالتزام أو الإلزام لا يكتب، وإنما يفهم، كقاعدة أساسية فى العلاقات بين البلدين.

وفى اجتماع مع قادة المصريين الأمريكيين سئل الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر عما قاله المرحوم الرئيس أنور السادات لهؤلاء القادة، من أن الولايات المتحدة التزمت فى الكامب بالمساواة الاستراتيجية الكاملة بين مصر وإسرائيل، فأجاب كارتر بالنفى المطلق، وفهم الحاضرون ــ على ما يروى الدكتور كمال أبو عقيلة أستاذ الجراحة الشهير فى واشنطن ــ أن السادات ربما توسع فى فهمه للتعهد الأمريكى بإلزام مصر وإسرائيل بعدم تهديد أى منهما لأمن وحدود الطرف الآخر، والمعنى هنا أن تبقى إسرائيل متفوقة عسكريا على الجيوش العربية مجتمعة، كما يقضى الالتزام الأمريكى الدائم نحوها، ولكنها تمنع أو تردع «سياسيا» من استغلال هذا التفوق لابتزاز مصر أو تهديدها.

علينا ــ إذن ــ أن نفهم أن هذا الالتزام السياسى الأمريكى نحو مصر بما فيه من معونات اقتصادية وعسكرية هو مكون رئيسى من مكونات أمننا القومى، أحب من أحب، وكره من كره، مثلما أن الالتزام الأمريكى الأشمل نحو إسرائيل هو من مكونات أمنها القومى، ومثلما أن هذين الالتزامين هما أحد أهم أركان الاستراتيجية الأمريكية الكبرى فى الشرق الأوسط، جنبا إلى جنب مع الأركان الأخرى.

نحاول الآن أن نرصد ونفهم كيف ولماذا تأزمت العلاقة المصرية الأمريكية منذ بداية القرن الحالى؟، على الرغم من تأكيد كبار المسئولين فى البلدين (وصغارهم أيضا) الأهمية الاستراتيجية لهذه العلاقة، والحرص عليها دائما وأبدا؟ سواء كان الذى يحكم مصر حسنى مبارك أو محمد مرسى الإخوانى، أو عبدالفتاح السيسى، وسواء كان الذى يحكم أمريكا جورج بوش الابن، أو باراك أوباما، أو دونالد ترامب الوافد الجديد.

الحقيقة أن منحنى الهبوط بدأ مع تولى بيل كلينتون رئاسة الولايات المتحدة خلفا لجورج بوش الأب، فقد كان الرئيس المصرى حسنى مبارك متفاهما مع الأخير، ومعجبا به، وحقق معه الاعتراف الأمريكى بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومؤتمر مدريد للسلام فى الشرق الأوسط، ومن قبل شاركه فى حرب تحرير الكويت، وحصل منه على خفض الديون العسكرية الأمريكية على مصر، لكن كلينتون بدأ يحدث مبارك عن حاجة مصر إلى جرعة من الديمقراطية فى الداخل لعلاج «تصلب الشرايين» الذى أصاب النظام السياسى، وعن تحسين فرص نمو، وتحصين مصر والمنطقة ضد الإرهاب.

ثم تحول عدم الارتياح بين مبارك وكلينتون إلى أزمة مع جورج بوش الابن، عندما أظهرت مصر معارضة (غير نشطة) لمشروع الغزو الأمريكى للعراق، فقد كانت القاهرة التى تفهمت دواعى الغزو الأمريكى الأطلنطى لأفغانستان لإسقاط حكم طالبان عقابا على هجمات 11 سبتمبر، تنتظر التحول بعد ذلك مباشرة إلى الحل الشامل للقضية الفلسطينية، باعتبارها المصدر الأصلى للعداء العربى الإسلامى للولايات المتحدة، وللإنصاف، فقد كانت مصر محقة هنا، لأن بوش الابن كان قد تعهد بذلك ليس لمصر وحدها، ولكن لحلفائه الأطلنطيين، عندما دعاهم للمشاركة فى غزو أفغانستان، كما صرح بذلك علنا يوشكا فيشر وزير خارجية المانيا فى ذلك الوقت، بل وكما تخوف من ذلك علنا أيضا آرييل شارون رئيس وزراء اسرائيل آنذاك، لكن بوش الابن فاجأ الجميع (بتحريض المحافظين الجدد فى إدارته) بمشروعه لغزو العراق.

ومع ذلك فقد بقيت الأزمة بين مصر وأمريكا فى هذه المرحلة فى حدود ضيقة.

أما الذى أخرج الأزمة من هذه الحدود الضيقة، فهو رفض مصر تاليا لطلب جورج بوش الذى حمله إلى شرم الشيخ نائبه ديك تشينى إرسال قوات إلى العراق ضمن تحالف إسلامى سنى يضم السعودية وباكستان والأردن، وذلك لسد الفراغ الذى نجم عن حل جيش العراق بقرار أمريكى، وأدى إلى طغيان النفوذ الإيرانى والشيعى العراقى المحلى، وهو ما أدى بدوره إلى تمرد السنة. (ولا شك أن رفض مصر لهذا الطلب الأمريكى يسجل لمبارك).
فى هذه اللحظة بدأ الحديث عن خفض المعونات الأمريكية لمصر، وهو ما نفذ بعد ذلك.

وفى مصر ذاتها كانت الأوضاع السياسة الداخلية قد بدأت تتأزم هى الأخرى بسبب «تصلب شرايين النظام» من ناحية، وبسبب مشروع توريث الحكم لنجل مبارك، أما فى المنطقة ككل فقد أدى التعثر الأمريكى فى أفغانستان والعراق، واتساع نطاق العنف الطائفى والدينى إلى انتصار رؤية فريق السياسة الواقعية فى إدارة بوش الابن، بقيادة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية على رؤية المحافظين الجدد، وكان مقتضى هذا الانتصار أن دفع التحولات الديمقراطية فى الشرق الأوسط «الكبير أو الموسع أو الجديد»، هو الحل لمشكلات المنطقة، والحل لمشكلات العالم فيها ومعها، وهكذا بدأ الصدام يعلن عن نفسه، ولا شك أن هذا الصدام كان من بين محفزات المعارضة الداخلية فى مصر لمشروع التوريث، التى كانت منتشرة على نطاق واسع من الأصل.

لم يجد الرئيس السابق مبارك حلا لإنقاذ طموح الابن الوريث سوى المناورة بتعديل الدستور لتحويل طريقة اختيار رئيس الجمهورية المصرى من الاستفتاء على مرشح واحد إلى الانتخاب بين عدة مرشحين، لتكون تلك المناورة فتيل الإشعال لحراك سياسى توج بثورة يناير 2011، وهى حدث متعدد الروافد، فالسخط الشعبى على الجمود والفساد والتفاوت الطبقى والتوريث كان أحد تلك الروافد، والغضب من انتهاكات الشرطة، كان أحد الروافد أيضا، ورفض بعض مؤسسات الدولة العميقة للتوريث، وتورط بعضها الآخر فى دعمه، بما تضمنه ذلك من صراع فيما بينها كان رافدا ثالثا، وكذلك كانت المطالبات الدولية وفى مقدمتها (الأمريكية) بالإصلاح واحترام حقوق الانسان رافدا رابعا، علما بأن هذه الضغوط الدولية لم تأت حبا فى الديمقراطية لذاتها، أو حرصا على تحسين أحوال مواطنينا، بقدر ما أتت وتأتى انطلاقا من الاعتقاد بأن العرب والمسلمين أصبحوا عبئا على العالم، ونشازا فيه بتخلفهم، وتصديرهم للإرهاب واللاجئين والمهاجرين، وبعجز حكوماتهم عن إيجاد الحلول.

فى وضع كهذا، وفى أذهاننا هذه العلاقة الاستراتيجية العضوية بين مصر وأمريكا، من ذا الذى يفترض ألا يكون لواشنطن دور فيما سيتلو من تطورات فى مصر؟

لم تكن الكتلة الكبرى من المطالبين بالتغيير فى يناير 2011 هى وحدها من رحبت بالمطالبة الأمريكية لمبارك بسرعة تفويض السلطة والتنحى، ولكن مؤسسات الدولة الرافضة للتوريث، وغالبية القوى السياسية رحبت بذلك أيضا، وتعاونت مع الموفدين الأمريكيين لهذا الغرض.

ولم يكن أحد فى ذلك الوقت يطالب الجانب الأمريكى، ولا حتى يتوقع منه أن يساند بناء نظام سياسى جديد يقصى قوة سياسية بعينها من المشاركة، خاصة قوى الإسلام السياسى التى التزمت بالسلام مع إسرائيل، وبالانتخابات وسيلة للوصول إلى السلطة، ومرة أخرى تعاونت مؤسسات الدولة العميقة فى هذا الاتجاه.

لم يتحدث أحد فى مصر فى ذلك الوقت عن مؤامرة أمريكية لتفتيت الدولة، أو عن حروب جيل رابع أو خطة أمريكية لتقسيم المشرق العربى، ولكن ذلك كله ــ قيل فيما بعد، لتفسير عدم الحماس الأمريكى للتطورات التالية للتحرك الجماهيرى الضخم ضد فشل، وغطرسة، واستبداد حكم جماعة الإخوان المسلمين فى 30 يونيو عام 2013، وأضيف إليه أن واشنطن كانت قد اتفقت مع الجماعة على بيع سيناء لاسرائيل أو لحركة حماس، وأن محمد البرادعى عارض فض اعتصام رابعة بالقوة لأنه عميل أمريكى، وأن ثورة يناير كلها مؤامرة أمريكية، وقد قيل كل ذلك، ولا يزال يقال دون أن يصدر بيان رسمى واحد من أى جهة فى الدولة المصرية، أو تظهر عنها وثيقة واحدة تثبت وجود ذلك الاتفاق الأمريكى الإخوانى حول سيناء، أو تؤكد عمالة البرادعى أو غيره للمؤامرة الأمريكية، أو تكشف خيوط ووقائع تلك المؤامرة، بأكثر مما هو معلن ومعتمد رسميا كاستراتيجية أمريكية.

أما استمرار اعتقاد الكثيرين من بيننا بتأثير الحقبة الناصرية، أو التطرف الإسلامى بأن أمريكا تتآمر على مصر، وسائر الدول العربية والإسلامية لحساب إسرائيل والصهيونية العالمية، فقد بات اعتقادا مضحكا، بعد أن أصبحت اسرائيل أقرب لكثير من العواصم العربية من بعضها لبعض، وبعد أن صارت مرشحة للانضمام لتحالف سنى فى الشرق الأوسط ضد المد الشيعى، وبعد أن اعترفت بها كبرى جماعات الإسلام السياسى، فضلا عن تفاخر إسرائيل نفسها بأن أحدا فى المنطقة لم يعد قادرا على تهديدها.

لكن هذا الاعتقاد يبقى مفيدا، لأنه يجعل أزماتنا كلها تبدو كأنها من أعراض الداء الأمريكى العضال الذى أصابنا فى الشرق الأوسط، وكأننا لم نرتكب أخطاء فى حق أنفسنا، ولا نزال نرتكب من الأخطاء ما لا يعد ولا يحصى، فى حين أن الحلم بالرضا الأمريكى يمثل الدواء المنشود للجميع عندنا من مواطن يريد الهجرة، أو طالب يريد الدراسة، إلى عالم يريد التفوق، وسياسى أو مسئول يريد المساندة فى الداخل وفى الخارج، بل وحتى زوجة حامل تسافر لتضع مولودها على الأرض الأمريكية ليحصل على الجنسية والفرصة والحماية.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved