فرصة فى التاريخ

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 1 أغسطس 2015 - 6:55 ص بتوقيت القاهرة

لكل إنجاز سياقه.
قوة أى إنجاز من طبيعة التحديات التى يواجهها والطاقات التى يعبئها والمسارات التى يأخذها.
بقدر ما يتسق مع طلب التنمية تتعزز صورته فى التاريخ.
وبقدر ما يعبر عن إرادة تصويب الأداء العام يكتسب قوة دفعه.
السياق قضية مخطط عام نفتقده فى النظر إلى المستقبل.
فالتناقض فادح بين انضباط صارم فى مشروع توسيع قناة السويس أفضى إلى إنجازه فى مواقيته المقررة وانفلات فى الأداء العام أقرب إلى الكوارث اليومية كأن الدولة قد تحللت وظائفها الأساسية.
رغم هذا التناقض المقلق الاعتزاز ضرورى بالإنجاز الكبير.
فهو رسالة إلى المجتمع فى قدرته على البناء تحت أقصى الظروف.
وهو رسالة إلى العالم أن مصر توشك أن تفتح صفحة جديدة فى تاريخها.
فى تكامل الصورة تستدعى التحديات الوجودية التى تعترض مصر الآن التساؤل عن اليوم التالى.
هل يأخذ الإنجاز قوة دفعه أم يتوقف فى منتصف الطريق دون تصحيح للأداء العام؟
الإبطاء فى الإجابة يأخذ من البلد فرصة فى التاريخ يصعب أن تتكرر مرة أخرى بأى مدى منظور.
حق المصريين فى الفرح، وهو ضنين، لا ينفى ضرورات المصارحة بالحقائق.
المصارحة بجدية من ضرورات ألا يتحول الإنجاز الكبير إلى ما يشبه الألعاب النارية التى تخطف العيون قبل أن تتبدد أضواؤها فى الفراغ.
هناك فارق جوهرى بين شهادات الاستثمار وشهادات الاستحقاق.
الأولى، تتحدث فى الأرباح المالية المحتملة.. وهذه مسألة سوف تستغرق وقتا حتى تستبين وتتضح.
والثانية، تتحدث فى التحديات الماثلة وما تتيحه قوة الدفع من فرص لبناء نموذج جديد تتسق فيه المشروعات مع القيم الرئيسية لثورتين.
شهادة الاستحقاق تتطلب التفكير بطريقة مختلفة.
مراجعة وتصويب قبل الانطلاق الممكن إلى مستقبل جديد.
إنجاز قناة السويس يوفر أرضية متماسكة يمكن التأسيس عليها لكن ذلك يحتاج إرادة سياسية لدخول التاريخ وتحمل تبعات معاركه.
المصرى العادى ينتظر جوائز تضحياته التى طال انتظارها.
هذه مسألة عدالة اجتماعية معطلة.
والعالم كله يترقب الخطوات التالية بعد أن تهدأ الاحتفالات حتى تتضح أمامه الحدود السياسية للإنجاز الكبير.
وهذه مسألة تعنيه فى حساباته الاستراتيجية بالإقليم كله.
يقول الرئيس إن المجرى الملاحى الجديد «هدية مصر للعالم»، وهذا صحيح تماما بالنظر إلى أن قناة السويس أهم ممر تجارى دولى.
وما ينتظره المصريون العاديون الذين طالت معاناتهم أن يكون نفس الإنجاز «هدية الإرادة الحرة إلى المستقبل».
فهو ينبئ عن شىء ما جديد يمكن أن يولد هنا لا يصح التفريط فيه أيا كانت الأعذار والمبررات.
وهذه مسألة تستدعى رؤية سياسية تستجيب لاحتياجات مجتمعها فى دولة حديثة ديمقراطية وعادلة تقدر على دحر الإرهاب والبناء من جديد.
أى تعطيل إضافى لمثل هذه الرؤية يسحب من الإنجاز قوة دفعه.
بكلام آخر فإن أكثر الرسائل جوهرية فى الإنجاز الجديد «تثبيت الدولة».
ولا يمكن استبعاد عمليات إرهابية قبل الاحتفالات أو أثناءها لإرباك هذه الرسالة أيا كانت التحصينات الأمنية.
فبقدر تعافى الدولة وإثبات قدرتها على الإنجاز تتزايد احتمالات دحره بأقرب وقت ممكن.
ما بين البناء والإرهاب علاقة تضاد غير أنه لا بناء يمتد أثره بلا رؤية للمستقبل.
الرؤى السياسية لا تؤلف فى غرف مغلقة.
فى التاريخ المصرى الحديث هناك مشروع وطنى واحد يتجدد من مرحلة إلى أخرى.
يضاف إليه ويحذف منه وفق حقائق العصر.
ما هو مطلوب الآن تجديد المشروع الوطنى وفق أهداف «يناير» و«يونيو».
وهذه مسألة شرعية.
أسوأ الاختيارات الممكنة نزع الشرعية المستحقة عن إنجاز قناة السويس وإحالته إلى محض شق طريق ملاحى دون آفاق فى السياسة ومداخل إلى التاريخ.
تغييب السياسة بمعناها الواسع يسحب أية حيوية عن أية مشروعات بناء.
ما تحتاجه مصر أن تأخذ نفسا طويلا وتثق فى نفسها وتراجع مسارها.
القضية ليست أن نعلن فى مناسبة الاحتفالات عن مشروعات أخرى مماثلة.
هذه نزعة إيجابية لمواصلة البناء والإنجاز من عام إلى آخر غير أنها تفتقد إلى ما هو ضرورى من مراجعة وتصويب.
السياسات قبل المشروعات.
والرؤية قبل وبعد أية إنجازات.
هناك خللان رئيسيان فى الأداء الاقتصادى العام.
الأول، غلبة التفكير العقارى على الاحتياج الإنتاجى.
والثانى، الولع بالمشروعات الكبرى على حساب المشروعات المتوسطة والصغيرة.
يلخص مشروع «العاصمة الجديدة» الخللين معا.
لا يقلل من شأن الرئيس، وهو فى ذروة إنجازه، أن يتراجع عن مشروع يناهضه الخبراء والمختصون والسياسيون.
فالقاهرة عاصمة تاريخية لا تضاهيها سوى عواصم معدودة فى العالم مثل روما وأثينا ولندن وباريس.
هل فكر أحد فى تغيير عواصم من مثل هذا الحجم التاريخى؟
ليس فى طاقة أى رئيس مصرى أن ينقل مقر حكمه خارجها.
وإذا فعل بقوة السلطة فإن أول قرار لخلفه إعادتها عاصمة للبلاد لاكتساب ما يحتاجه من شعبية.
هناك فارق بين الإعمار وفق خطة تعرف أولوياتها والدخول فى مشروعات دون دراسة جدوى حقيقية وبلا ضرورة ملحة.
افتقاد أى دليل عمل هو نقطة الضعف الجوهرية فى أية إنجازات ممكنة على نمط مشروع قناة السويس.
وهذا قيد ثقيل على الاستثمار التاريخى فى الإنجاز الجديد أيا كانت الأمنيات طيبة.
هناك حاجة ماسة إلى الاستثمار فى تحسين جودة الحياة وفرص العمل ومستويات الدخول واستثمار ثان فى بنية الدولة المهلهلة لإعادة بنائها وفق القيم الدستورية الحديثة واستثمار ثالث فى هيبة الدور الإقليمى المصرى.
غير أن ذلك كله كلام فى السياسة والرؤية قبل البناء والتصرف.
من زاوية أخرى فى السياق نفسه ليس هناك من إنجاز يمتد أثره إن لم تكن الدولة على قدر من العافية والانضباط.
تنحية الدستور تعنى بالضبط نسف أية احتمالات جدية لإعادة بناء الدولة من جديد.
والتلاعب بالقوانين يفضى إلى عوار سياسى ودستورى ينحر فى مستقبلها، فهناك فارق بين «دولة العدل» و«دولة النهب».
أية مراجعة للقوانين الاقتصادية التى صدرت صاعقة بذاتها.
لجنة السياسات فى الحزب الوطنى التى كان يترأسها «جمال مبارك» لم تكن تجرؤ على إصدارها.
تعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية للتصالح فى جرائم المال العامة هو دعوة مباشرة للفساد باسم التصالح.
هذا مجرد مثال.
البيئة العامة تحتاج إلى مراجعة، فإذا لم يضرب الفساد فى مؤسسته ورموزه فإن أية إنجازات كبيرة سوف تطوى بأسرع من أى توقع.
المعنى فى ذلك كله أن إنجاز السويس يستحق التأسيس عليه حتى لا تهدر فرصة فى التاريخ قد لا تعوض.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved