فى رثاء الغد العربى الذى غاب عنه هيكل.. بإرادته!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 1 مارس 2016 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

كشف رحيل صحفى القرن محمد حسنين هيكل، فى جملة ما كشفه، خطورة غياب مصر عن دورها العربى الذى كان ـ تاريخيا ـ يتجاوز السياسة، بالأنظمة والأحزاب، إلى الحياة العامة العربية، الثقافية والأكاديمية والفنية، وبين عناوينها الصحفية.

كانت القاهرة، قبل السياسة وبعدها، عاصمة العرب بالمعانى والدلالات جميعا... وكان لها، بالتالى، الدور الريادى. حتى فى أيام مصر الملكية، كانت القاهرة أخطر منابع أو مصادر الثقافة. كانت مكتبة العرب وجامعتهم: طلائع المثقفين منها، أو فيها، على اختلاف توجهاتهم «يسار، يمين، عروبة، إقليمية، فرعونية، كيانية، هاشمية، وهابية» إلخ.

لذلك كان تمدد زعامتها ودورها القيادى، عربيا، مشروعا، لم يناقشها فيه أحد على المستوى العربى، بمن فى ذلك الأنظمة التى ناصبت جمال عبدالناصر العداء، خوفا من تمدد تداعيات حركته الثورية إلى البلاد التى تُحكم بقمع التخلف، سواء باسم الدين أو القبيلة الأقوى أو الأكثر عددا، أو بالاستناد إلى دعم قوى الاستعمار الذى كان وما زال يهيمن أو يؤثر على أوضاع معظم الدول العربية، فى المشرق كما فى المغرب.

كان كتاب العرب مصريا، فى الغالب الأعم. وكانت سينما العرب مصرية، والطرب العربى مصريا، ولو مع اختراقات عراقية وسورية ولبنانية. بل إن أشهر مطربى الوطن العربى قد وصلوا إلى الجمهور العريض فى ما بين المحيط والخليج عبر القاهرة بإذاعاتها العديدة وشاشتها المرئية التى كانت بين الأوائل عربيا، والأوسع انتشارا وتأثيرا بالتأكيد. وبالتالى فإن الأغنية العربية ومعها الموسيقى تراثية أو حديثة كانت تصل إلى المستمع العربى عبر إذاعات القاهرة ثم عبر شاشتها المرئية.

أما اليوم فالكتاب العربى مطبعته، إلى حد كبير، لبنانية، ودار نشره خليجية، عموما، بعنوان الإمارات العربية المتحدة «الشارقة وبعدها أبو ظبى والمعارض فى دبى» ثم قطر وبعدها الكويت التى كانت سباقة فتراجعت أمام منافسيها الجدد.

وأما الصحافة العربية، اليوم، فهى خليجية عموما، بعنوان «سعودى ـ قطرى»، وكذلك شاشات التلفزيون فهى خليجية بعنوان قطرى ـ سعودى «الجزيرة، العربية..».

باختصار كانت القاهرة عاصمة القرار السياسى و«العسكرى» الفكرى و«الإعلامى»، يسلم لها العرب عموما بهذا الدور، وإن ناكفتها بعض عواصم المشرق «بغداد بالدرجة الأولى، ودمشق، الحليف الصعب..» فى حين تلتحف المملكة السعودية بالصمت، متحاشية الصدام، إلا حين يداهمها خطر التأثير عبر جوارها القريب «اليمن» مساندة ومشجعة و«ممولة» منافسى القاهرة، عربيا.

***
وعندما تولى هيكل رئاسة تحرير «الأهرام» وحولها إلى مؤسسة إعلامية ـ ثقافية ـ سياسية خطيرة «بما أضافه إليها، بعد الزيادة الهائلة فى الانتشار، مركز الدراسات الاستراتيجية ثم المطبوعات المتعددة وأخطرها، فكريا، الطليعة..»، فإنه إنما كان يرتفع بالصحافة إلى المستوى اللائق بدورها، قبل السياسة وبعدها، فى مجالات الثقافة والإبداع. كأن يصدر ملحقها الأسبوعى، يوم الجمعة، وفيه إضافة إلى ما يكتبه بتأثيره السياسى، مساحة واسعة للثقافة بكبار المبدعين توفيق الحكيم والحسين فوزى ولويس عوض وصلاح عبدالصبور وآخرين، فى حين يبدع صلاح جاهين رسومه الكاريكاتيرية «وهو الآتى من مجلة صباح الخير التى أصدرها أحمد بهاء الدين من دار روز اليوسف لمخاطبة الشباب. هذا قبل أن ينتقل بهاء إلى دار الهلال فينفخ فيها الروح ويجددها مكرما تاريخها وموسعا دائرة انتشار مطبوعاتها وكتبها جميعا».

هذا لا يعنى، إطلاقا، إلغاء دور الآخرين من كبار الصحفيين فى مصر، وفى طليعتهم مصطفى وعلى أمين فى الأخبار وأخبار اليوم، وإحسان عبدالقدوس وفتحى غانم فى روز اليوسف ثم صباح الخير.

الحديث عن الصحافة هنا، حديث فى السياسة وليس خارجها.. وبالتأكيد فإن فى البلاد العربية «وامتدادها فى لندن» مؤسسات صحفية غنية إلى حد الترف، فأصحابها أمراء أبناء ملوك، أو أمراء صيروا أنفسهم ملوكا، يضعون فى خدمة المطبوعات التى يصدرونها ملايين الملايين من الدولارات، لكن توزيعها ما زال بائسا «لا يتناسب بطبيعة الحال مع الكلفة ومع الرفاه الذى يعيشه العاملون فيها فى المنافى الفخمة».

***
كانت مصر تحتل مكانها الشرعى فى القيادة العربية، بجدارة. فإلى جانب السياسة كانت جامعة العرب «وأجيال المتخرجين الأوائل فى الجزيرة العربية، والخليج العربى خاصة تلقوا العلم فيها إضافة إلى جيلين من اللبنانيين فضلا عن أوائل المتخرجين الجزائريين والليبيين إلخ».

لقد تعززت الجدارة السياسية بأن مصر كانت، آنذاك، جامعة العرب، وصحافة العرب، وكتاب العرب، والدولة التى ساهمت فى تعليم جيل أو جيلين من العرب، قبل الحديث عن الموقع المؤثر فى السياسة الدولية التى تحققت للعرب فصاروا يشعرون بشىء من الزهو كونهم يؤثرون فى القرار الدولى، وكون دولتهم الحاضنة تتقدم لاحتلال المكانة التى كانوا يتطلعون إليها.

أما اليوم فالعرب بلا عاصمة، أى بلا مرجعية سياسية: دول تمزقها الحروب الأهلية أو ما يماثلها «وإن كامنة»، وهم محتربون فى ما بينهم، بعضهم يتواطأ على البعض الآخر إلى حد المشاركة فى الحرب عليه بذريعة اختلافه مع نظامه.
إن أربع دول عربية، على الأقل، تحترق فى قلب الحرب فيها وعليها. وهناك دول أخرى قلقة تحاول تفادى تمدد النار إليها، بأى ثمن، فتستدعى قوات أجنبية لحمايتها. وثمة دول أخرى أسقطت حالة العداء عن إسرائيل طلبا للسلامة. وثمة دول أخرى تنسق مع العدو الإسرائيلى مخابراتيا، فضلا عن التعامل معه اقتصاديا.

أما فى مجال الثقافة والتعليم فيمكن القول بلا تحفظ إن الأجيال العربية الجديدة لا تعرف لغتها، وأن لغة التخاطب فى البيوت هجينة «شىء من الفرنسية أو إنجليزية مطعمة بكلمات عربية مكسرة»، وأن الموسيقى والغناء وسائر ما يتوجه إلى الوجدان فيغذيه، تكاد تكون أجنبية أو مهجنة. و«النخب» العربية تفضل الحديث بلغة أجنبية «الإنجليزية غالبا، والفرنسية فى بعض الحالات وبعض البلدان التى أخضعها الاحتلال الفرنسى طويلا، كدول شمالى أفريقية خاصة الجزائر، والمغرب إلى حد.. أما لبنان فخليط من الفرنسية والإنجليزية..». بل إن الأجيال الجديدة فى مصر بالذات لا يتقنون العربية ويهربون منها باعتبارها من سمات التخلف والتقوقع فى عصر لم تطرق أبوابه العولمة. «لغة الإنترنت ومشتقاتها جميعا إنجليزية مؤمركة..».

***
ليس القصد من هذه الكلمات رثاء أستاذنا هيكل. ذلك واجب لم يقصر فى أدائه أى صاحب قلم، بمن فيهم من كانوا يصنفون «أعداء له»..

لقد مضى «الأستاذ» إلى ربه، ولم يبقَ منه إلا تراثه فى الفكر السياسى، وجهده فى التأريخ لحقبة هى الأخطر فى حياة هذه الأمة العربية. لكن غيابه جاء فى لحظة التيه العربى التى نعيش فيها غرباء عن أنفسنا، غرباء فى أوطاننا، متقاطعين إلى حد الحرب التى استولدتها الخصومة السياسية والتى أخذت دول عربية كثيرة إلى مطالبة «الاستعمار» بأن يعود إليها، ليس بشركاته وجامعاته ومخترعاته، بل بعسكره وبالهيمنة السياسية ـ الاقتصادية، وتوسل مؤسساته المالية «البنك الدولى وصندوق النقد الدولى» بأن تتولى «ترشيد» موازنات دوله بالثمن الفادح.

لكأنه اختار لحظة رحيله. كان يرفض اليأس، لكن كل ما حوله يلتهم آماله وأمنياته، وحتى أمله بأن تجد هذه الأمة طريقها للعودة إلى ذاتها، والإمساك بمقدراتها وصنع غدها بكفاءة أبنائها وقدرات بلادها.

إننا فى زمن التيه: دولنا ليست دولا. كلها «مستقلة» ولكنها تلح فى طلب الاستعمار بصيغته الجديدة: الهيمنة من دون عسكر، بعدما ثبت أن «الدولار» أقوى جيش غزو فى العالم، وبعدما احتكرت أمريكا وقلة من دول أوروبا أسباب العلم، وسيطرت على وسائل التواصل فى العالم.

ثم إن دولنا محتربة. صارت دول الخليج قوى محاربة فى حين أنهكت الحروب فى الخارج أو فى الداخل أو فى كليهما معا سوريا والعراق و«أخيرا اليمن» بينما تم تذويب ليبيا، وتونس على شفا هاوية تتهدد استقرارها وثورتها الشعبية العظيمة.
نكاد نقول إن «الأستاذ» قد اختار موعد رحيله. ونكاد نحسده على غيابه حتى لا يعيش ما نعيشه الآن، وما يتهددنا من أسباب حياتنا فى مستقبلنا القريب.

ويبقى الأمل فى تغيير جدى وجذرى يعيد إلى هذه الأمة قدرتها على بناء غدها. وبين شروط هذا التغيير أن تستعيد مصر ذاتها ودورها الذى لا يمكن أن يحل مكانها فيه أحد.

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved